قصة أصحاب الأخدود
[size=21]
قصة أصحاب الأخدود قصة عظيمة ، أشار الله عز وجل إليها في كتابه إشارة
مختصرة - على طريقة القران في الإيجاز , وعدم الخوض في التفصيلات - ، وقد
ذكر النبي صلى الله عليه وسلم تفاصيل القصة وأحداثها في الحديث الذي رواه
الإمام مسلم في صحيحه عن صهيب [/size] رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( كان
ملك فيمن كان قبلكم , وكان له ساحر , فلما كبر قال للملك: إني قد كبرت
فابعث إلي غلاما أعلمه السحر , فبعث إليه غلاما يعلمه , فكان في طريقه إذا
سلك راهب , فقعد إليه وسمع كلامه فأعجبه , فكان إذا أتى الساحر مر بالراهب
وقعد إليه , فإذا أتى الساحر ضربه , فشكا ذلك إلى الراهب , فقال : إذا
خشيتَ الساحر فقل : حبسني أهلي , وإذا خشيت أهلك فقل : حبسني الساحر
, فبينما هو كذلك , إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس , فقال : اليوم
أعلم آلساحر أفضل أم الراهب أفضل , فأخذ حجرا فقال : اللهم إن كان أمر
الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس , فرماها
فقتلها , ومضى الناس , فأتى الراهب فأخبره , فقال له الراهب : أي بني ,
أنت اليوم أفضل مني , قد بلغ من أمرك ما أرى , وإنك ستبتلى , فإن ابتليت
فلا تدل علي , وكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص , ويداوي الناس من سائر
الأدواء , فسمع جليس للملك كان قد عمي , فأتاه بهدايا كثيرة , فقال ما
هاهنا لك أجمع إن أنت شفيتني , فقال إني لا أشفي أحدا , إنما يشفي الله ,
فإن أنت آمنت بالله دعوت الله فشفاك , فآمن بالله , فشفاه الله , فأتى
الملك فجلس إليه كما كان يجلس , فقال له الملك : من رد عليك بصرك , قال :
ربي , قال : ولك رب غيري , قال : ربي وربك الله , فأخذه فلم يزل يعذبه حتى
دل على الغلام , فجيء بالغلام , فقال له الملك : أي بني , قد بلغ من سحرك
ما تبرئ الأكمه والأبرص , وتفعل وتفعل , فقال : إني لا أشفي أحدا , إنما
يشفي الله , فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب , فجيء بالراهب , فقيل
له : ارجع عن دينك , فأبى , فدعا بالمئشار , فوضع المئشار في مفرق رأسه
فشقه حتى وقع شقاه , ثم جيء بجليس الملك , فقيل له : ارجع عن دينك , فأبى
, فوضع المئشار في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه , ثم جيء بالغلام ,
فقيل له : ارجع عن دينك , فأبى , فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال : اذهبوا
به إلى جبل كذا وكذا , فاصعدوا به الجبل , فإذا بلغتم ذروته فإن رجع عن
دينه وإلا فاطرحوه , فذهبوا به فصعدوا به الجبل , فقال : اللهم اكفنيهم
بما شئت , فرجف بهم الجبل فسقطوا , وجاء يمشي إلى الملك , فقال له الملك :
ما فعل أصحابك , قال : كفانيهم الله , فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال :
اذهبوا به فاحملوه في قرقور فتوسطوا به البحر , فإن رجع عن دينه وإلا
فاقذفوه , فذهبوا به فقال : اللهم اكفنيهم بما شئت , فانكفأت بهم السفينة
فغرقوا , وجاء يمشي إلى الملك , فقال له الملك : ما فعل أصحابك , قال :
كفانيهم الله , فقال للملك : إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به , قال
وما هو , قال : تجمع الناس في صعيد واحد , وتصلبني على جذع , ثم خذ سهما
من كنانتي , ثم ضع السهم في كبد القوس , ثم قل : باسم الله رب الغلام , ثم
ارمني , فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني , فجمع الناس في صعيد واحد , وصلبه على
جذع , ثم أخذ سهما من كنانته , ثم وضع السهم في كبد القوس , ثم قال : باسم
الله رب الغلام , ثم رماه , فوقع السهم في صُدْغِهِ , فوضع يده في
صُدْغِهِ في موضع السهم فمات , فقال الناس : آمنا برب الغلام , آمنا برب
الغلام , آمنا برب الغلام , فأُتِيَ الملكُ فقيل له : أرأيت ما كنت تحذر ,
قد والله نزل بك حَذَرُكَ , قد آمن الناس , فأمر بالأخدود في أفواه السكك
فخدت , وأَضْرَمَ النيران , وقال : من لم يرجع عن دينه فأحموه فيها , أو
قيل له : اقتحم ففعلوا , حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها , فتقاعست أن تقع
فيها , فقال لها الغلام : يا أُمَّهِ اصبري فإنك على الحق ) .
إنها
قصة غلام نور الله بصيرته , وآتاه من الإيمان والثبات , والذكاء والفطنة ,
ما استطاع به أن يغير حال أمة بأكملها , وأن يزلزل عرش ذلك الطاغية
المتجبر , الذي ادعى الألوهية من دون الله , فقد كان لهذا الملك ساحر
يعتمد عليه في تثبيت ملكه , وإرهاب الناس لينصاعوا لأمره , فكبر سن هذا
الساحر , وطلب من الملك أن يرسل له غلاما , ليرث علمه , ويخلفه في مهمته ,
وكان من إرادة الله الخير لهذا الغلام أن كان هو المرشح لهذه المهمة ,
وتعرف في أثناء ذهابه إلى الساحر وعودته من عنده على راهب مؤمن , دعاه إلى
الإيمان والتوحيد فاستجاب له وآمن , ودله الراهب على ما يتخلص به من تأنيب
الساحر وتأنيب أهله في حال تأخره عنهم , ثم أراد أن يزداد يقينا واطمئنانا
بصحة ما دعاه إليه الراهب , فوجد الفرصة سانحة عندما اعترضت الدابة طريق
الناس , ثم ذاع أمر الغلام واشتهر بين الناس , وأجرى الله على يديه
الكرامات من شفاء المرضى وإبراء الأكمه والأبرص , وكان يتخذ من ذلك فرصة
لدعوة الناس إلى التوحيد والإيمان , حتى وصل خبره إلى الملك عن طريق جليسه
الذي دعا له الغلام فشفاه الله , وشعر الملك من كلام الوزير ببوادر فتنة
تهدد عرشه , عندما صرح بالألوهية والربوبية لغيره , فأراد أن يعرف أصل هذه
الفتنة ومصدرها , فوصل إلى الغلام ثم إلى الراهب عن طريق التعذيب , وأراد
أن يصدهم عن ما هم عليه , فأبوا واحتملوا العذاب والقتل على الكفر بالله ,
وأما الغلام فلم يقتله قتلا مباشرا كما فعل مع الوزير والراهب , بل استخدم
معه طرقا متعددة لتخويفه وإرهابه , طمعا في أن يرجع عن ما هو عليه ,
ويستفيد منه في تثبيت دعائم ملكه , وفي كل مرة ينجيه الله , ويعود إلى
الملك عودة المتحدي , وكان الناس يتابعون ما يفعله الغلام خطوة بخطوة ,
ويترقبون ما سيصل إليه أمره ، فلما يئس الملك من قتله أخبره الغلام أنه لن
يستطيع ذلك إلا بطريقة واحدة يحددها الغلام نفسه , ولم يكن الغلام يطلب
الموت أو الشهادة , بل كان يريد أن يؤمن الناس كلهم , وأن يثبت عجز الملك
وضعفه, في مقابل قدرة الله وقوته ، فأخبره أنه لن يستطيع قتله إلا إذا جمع
الناس في صعيد واحد ، وصلبه على خشبة ، ثم أخذ سهمـًا - وليس أي سهم , بل
سهمـًا من كنانة الغلام - ثم رماه به قائلاً : بسم الله رب الغلام .
فقام
الملك بتطبيق قول الغلام ، ومات الغلام , وتحقق للملك ما أراد , وآمن
الناس كلهم , فجن جنون الملك , وحفر لهم الأخاديد , وأضرم فيها النيران ,
ورضي الناس بالتضحية في سبيل الله , على الرغم من أنه لم يمض على إيمانهم
إلا ساعات قلائل بعد الذي عاينوه من دلائل الإيمان , وشواهد اليقين ,
وأنطق الله الرضيع عندما تقاعست أمه عن اقتحام النار , وكانت آية ثبت الله
بها قلوب المؤمنين .
إن هذه القصة تبين لنا قاعدة مهمة من قواعد
النصر ، وهي أن الانتصار الحقيقي هو انتصار المبادئ والثبات عليها ، وأن
النصر ليس مقصوراً على الغلبة الظاهرة ، فهذه صورة واحدة من صور النصر
الكثيرة , فالحياة الدنيا وما فيها من المتاعب والآلام ، ليست هي الميزان
، الذي يوزن به الربح والخسارة , والناس جميعاً يموتون ، وتختلف الأسباب ،
ولكنهم لا ينتصرون جميعاً هذا الانتصار .